لماذا ينشأ التطرف الديني، ومن أين؟

ما الذي يدفعُ شخصاً ما للانسلاخ التام من مبادئه، وثقافة مجتمعه، ليصبح عدواً لها يحاربها بأقصى ما يستطيع من قوة، وما الذي يدفع شخصاً آخر في الوقت ذاته، بالتمسك بثقافته وقناعاته للدرجةِ التي تجعله يُقدمُ على إلغاء الآخر، وإقصائه، ونفيه، بل وقتله أحياناً.

الشخصُ المتطرفُ، في كلا الجهتين، يُمارسُ انسلاخاً تاماً، ورفضاً كاملاً لما يمثله الطرف الضد، كما أن الشخص الذي يتطرف في الرفض يمارسُ هروباً متكرراً من أيِّ حقيقةٍ يؤمنُ بها الطرف الآخر، حتى لو كانت مفيدةً له، إنه شخصٌ لم يعد يعرفُ معنى الانتماء، ولم يعد يعرفُ مصلحة نفسه، ومصلحة من حوله، إذ يتغلبُ عليه طبعُ التطرف، حتى يتحول من مؤمن بفكرة، إلى مريضٍ نفسي بها، ويتحولُ الإيمانُ القائمُ على العقل والفهم، إلى تبلدٍ وتحجرٍ هو أشدُّ ما يكون ضرراً على الإيمانِ نفسه.

المتطرف مفارقة مَرَضِيةٍ في كلتا الحالتين، ويجبُ أخذ هذا التشخيص بعين الاعتبار، لأن من سينظر لهذا الكيان الكبير المُسَمَّى إسلامي، أو الكيان المعارض له داخلياً المسمى: ليبرالي، أو علماني، أو أياً من التسميات الأخرى، سيكتشفُ كمَّاً من  التناقضِ بينَ الادعاءات والواقع، وبين التنظير والتطبيق.

أن تجلسَ فوقَ جسرٍ يُطلُّ على نهرٍ، ثم تتأملُ التيارات المائية وهي تتداخلُ سوياً، موقناً أن هناك تياراتٍ سطحية، وأخرى عميقة قد تختلف مساراتها أحياناً وفقاً للدواماتِ أو مناطقِ وجود الصخر والجزر النهرية الصغيرة، وأنتَ تعرفُ معَ ذلك اتجاه جريان النهر الرئيسي، فإنكَ بذلكَ قادرٌ على أن تُحدد الاتجاهات المختلفة للتيارات المائية، وقادر على ملاحظةِ الوجهةِ النهائية لمجرى النهر.

أظنُّ أن هذا غير مُتاحٍ لأحدٍ، فيما لو كانَ هو أحد التياراتِ المتصارعة في النهر، والمتداخلة مع التيار الرئيسي.

حسناً، المتطرفُ، كحالةٍ، هو تيارٌ يتصارعُ مع تياراتٍ أخرى، لكنه في النهايةِ يجري نحو المصب، وهذا يعني بالأساس أنه لا يستطيعُ تقييم نفسه،  لأنه لا يُمكن لأحدٍ أن يرى العالم من داخل البيضة التي تُشكلُ عالمه.

المتطرفُ كحالةٍ، له قناعاته التي يقتنع بها أو تلك التي تُملى عليه. المتطرفُ، كعلاقةٍ وثيقةٍ بالمنبعِ الأصلي: الدين. ما الذي حدثَ له، وكيفَ وصلَ إلى ما وصلَ إليه، وما الأسباب التي جعلته ظاهرةً في مجتمعاتنا بهذا الشكل المثير للجدل، فأصبح التطرفُ سمةً لكثير ممن يدَّعون الالتزام والإيمان، وأصبح التطرفُ أيضاً سمةً ممن يدَّعون التحرر والاستقلال، ويعارضون التطرف الديني بتطرفٍ لا يقلُّ عنه شراسةً وانغلاقاً.

انتشر في الوعي الجمعي العربي أن المتطرف دينياً هو ضدُّ كل ما يمثل الحرية، والحضارة، والجمال، يُحرمُ التصوير، ويضطهدُ المرأة، ويأخذ دائماً بالأحوط سدَّاً للذرائع، ويتشدَّدُ في كلِّ جوانب الحياة، وعلى الجهةِ الأخرى، نجدُ المتطرف الليبرالي هو ضدُّ كلِّ ما يمثلُ الدين، ومن المفترض أن الدين ضدَّ كلِّ ما يمثله، ومع ذلك، هولم يعتنق ديناً جديداً في الحقيقة، إنه فقط تحررَ من التزامه الشكلي بدينه الأصلي اعتراضاً على التطرف، ودفعاً لتهمةِ التشدد، لكنه في أغلب الأحوال لا يزال ينتمي للدين بقلبه وعاطفته، ويعترفُ بأنه مُسلمٌ حقيقي.

الحديثُ عن هذه الظاهرة يجبُ أن يكونَ دقيقاً، وليسَ شرطاً أن يكونَ واضحاً. فالدقةُ أفضلُ من الوضوح. والاهتمامُ بالرؤيةِ الكليةِ أهمُّ من رصدِ التفاصيل والانحياز لها على حسابِ الجوهر.

وأحبُّ في هذا المقال أن أضرب مثالاً، وأن أسقط الأفكار على شخصية واقعيةٍ نعرفها، ونتابعُ إنتاجها الفكري، وقد وجدتُ في حالةِ عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير الشرق الأوسط، أنموذجاً مثالياً لما سأتناوله من أفكار تتعلق بالتطرف.

دعونا نؤكدُ في البداية أن الكتابة في الإعلام العربي تحركها وتبعثها الولاءاتُ للخنادق المختلفة، وهذا يجعلُ من الواردِ طغيانُ بعض الرؤى على بعض، واختزال المشهد في ردةِ فعلٍ نتيجةَ الاستثارةِ العاطفية. إن هذا مثلَ الانخداع بتيارٍ صغيرٍ والاعتقاد بأنه التيار الرئيسي في النهر، وهذا لا يمكن أن يقع فيه أحد إلا إذا كانَ داخل البوتقة، وكما قلنا؛ لا يُمكن لأحدٍ أن يرى العالم من داخل البيضة التي تُشكلُ عالمه.

ودائماً الحديث عن التطرف الليبرالي، يجعلُ من الموضوعِ مجالاً رحباً لكلِّ محدودي الأفق من أجل إفراغ شحناتهم العاطفية عن طريق الشتائم أو التهكم اللاذع، أو السخرية المتدينة، وأحياناً يتسعُ المجال للبكاء على حال الإسلام والمسلمين، ومدى الضعف والهوان الذي أعجزَ من يفترضون في أنفسهم الصلاح والولاية الإسلامية، أن يضربوا على يدِ أمثال هؤلاء المتطرفين، وأن يُنكلوا بهم، ويجازونهم بأسوأ ما كانوا يعملون.

حسناً، وماذا بعد؟

عبد الرحمن الراشد يوصفُ بالعمالةِ والخيانةِ، و مهاجميه يُوصفونَ بالإرهابِ والتأزمِ والانغلاق والرجعية.

ودائماً ما يُتهمُ الراشدُ وأمثاله ممن هم في خندقٍ مُعادي للتطرف الديني، دائماً يُتهمون  بما لا يدعُ مجالاً للعاطفةِ الجياشةِ أن تُنكره، خصوصاً في مثلِ هذه الأوقات التي تكثر فيها الانهزامات الوطنية، والإسلامية، حيثُ يرى المتطرفون الدينيون أنفسهم سبيل الخلاص، ويرى الراشد وأمثاله أنهم دُعاةُ التنويرِ وقادة الأمة إلى العهد الجديد، وأنهم الذين سيلغونَ القهر باسم الدين، والتسلط والجبروت باسم الدين، والفساد الإداري باسم الدين.

تعالوا ننظرُ للراشدِ كحالةٍ متوازيةٍ ومتناصةٍ ومتماثلةٍ في الأسلوبِ معَ الحالة الأصولية السلفية المتأزمة والمتشددة التي سيطرت على الفكر الإسلامي، وأصبح إثرها – لكي يكون الإنسان إسلامياً- فلابد أن يكون كذلك.

تعالوا نتفقُ على أنها أزمةٌ لغوية بالمقامِ الأول. فاللغةُ في النهاية دقيقة جداً في توصيف الدلالات، واستخدام المفردات. إنَّ اللغةَ – يا سادة- شأنٌ حساسٌ، ودليلٌ مبينٌ على ما يمكنُ أن نستخلصه عن هذا الشخص أو ذاك، فبغضِّ النظرِ عن الفكرةِ؛ تبقى الإيحاءاتُ اللغويةُ شأناً فاضحاً.

قد أعتبرُ نفسي مسلماً، لكنكَ – يا مُخالفي- تعتبرني غيرَ إسلامي. وإذا كنتَ أنتَ تعتبر نفسكَ إسلامياً، فأنا – كردةِ فعلٍ بالضرورة – سأعتبرُ نفسي ليبرالياً أو علمانياً أو حداثياً فقط لمجردِ الاختلافِ عنك، لأنَّ إسلاميتكَ المزعومة تقتضي مِنِّي التسليمَ لك ما دمتَ تتحدثُ باسم السماء، لذلك سأكونُ معارضاً لكَ بالضرورة  بمقتضى ما ألجأني إليه وصفكَ. أما إذا كنتَ تعتبرُني مسلماً مثلكَ، فأنا مسلمٌ مثلك ولا ضرورةَ لتوصيفِ الهوية بالياء في آخر الكلمة.

من هنا أتت الأزمة، أزمة الأوصاف. لابدَّ أن يكون لكلِّ واحدٍ وصفٌ، ولكلِّ إنسانٍ ياءٌ تحددُ هويته الفكرية. وهذه الهوية الفكرية لم تعد مذهباً دينياً، أو مذهباً عقدياً، بل أصبحت مذهباً سياسياً. وهنا لابدَّ أن ننتبه جيداً، فالسياسةُ تختلفُ كثيراً عن أيِّ هويةٍ أخرى.

ففي عالمٍ انتقلَ المسلمون فيه من الوحدة إلى التفرق، ومن الرقي إلى الانحطاط، لابدَّ أن يبحثَ كل باحثٍ عما يفتقده كإنسانٍ له كرامة وتوق وشعور بالحرية، فإذا وجده لدى الغيرِ تمسكَ به وآمنَ به، وعمل بمقتضى انتمائه الجديد.

ما الذي يمنعُ إنساناً يملك حريته، وينال كرامته، وترفه المادي، وحياته الخاصة، أن يتشدقَ ببعض الترهاتِ، ويتحدثُ باسمِ السماءِ، ويصادر من الآخرينَ قدرتهم على القولِ، ويستلب منهم حقهم في التواصلِ المباشرِ مع الله ما لم يكن عن طريقه، ويُفسر لهم ديانتهم وفقَ مزاجه وفهمه الخاص، ما الذي يمنع إنساناً كهذا أن يتشدقَ بكلِّ ذلك؟

وفي المقابل، ما الذي يُجبرُ إنساناً على البحث عن هذه المميزات، وهذه الكرامات الإنسانية، إلا إذا كانَ فاقداً لها في محيطه الاجتماعي والفكري والديني، وإلا إذا تمت مصادرة حريته وكرامته وإنسانيته؟

المتشددونَ لا يخرجونَ إلا من قلبِ المجتمعاتِ والأنماطِ التي تكتظ بالمحرماتِ والمقدساتِ، لأن المناخ هو الذي يُساعدُ على تفريخ هذه النماذج المتطرفة في كلا الاتجاهين، الديني المتزمت المتشدد، والليبرالي المتحرر الذي يُهاجم كل أشكالِ وصفات الاتجاه الآخر.

في الحقيقة، من أرادَ أن ينظرَ للتيارالديني المتطرف الذي ضيَّع جوهر الدين وتمسك بمظاهره، فلينظر لحالةِ المتطرف الليبرالي الذي انسلخ من الدين، وهاجم كل شكلياته، وكأنه ينظرُ في مرآة عاكسة.

تُرى كم مقدار القباحةِ التي سيسمحُ غرورُ هؤلاء وهؤلاء بالاعتراف بها، على الأقلِ لأنفسهم، وذلك عندما يروا مقدار التطابقِ والتماثلِ في التطرفِ بين الصورتين؟

إن هذا هو ما جعلَ لدينا إسلاميين أكثر إسلاميةً من الصحابة، وجعلَ لدينا ليبراليينَ وعلمانيينَ أكثر ليبراليةً وعلمانيةً من رؤوسِ الحداثةِ الغربية نفسها. هو الذي أفرزَ من بيننا من هو أكثر أمريكية من الأمريكين، وأكثر أوربيةً من الأوربيين، لذلك ليسَ بمستغربٍ أن يؤمنَ شخص مثل عبد الرحمن الراشد بالأيدلوجية الأمريكية لقيادةِ العالم أكثر من إيمان واشنطن بها، وليسَ للأمرِ علاقة بالعمالةِ أو الخيانة كما يُردد الجميع بلا تريثٍ أو تمهل. إن أمريكا بالمقابل لن تتخلى عن شخصٍ يؤمنُ بمثلِ إيمانها، ويتحمسُ لمشروعها أكثر من تحمسها هي. إن هذا يعني الدعم، التشجيع، التوجيه، يعني أن يكون الراشدُ صديقاً جيداً يجب استغلاله وفقاً لمصالحِ الأمريكين. يستطيعُ كاتبٌ مُلهمٌ ببعضِ الجهدِ أن يسترعي الانتباه، ويستجلبَ النظر له باعتبارهِ راعياً للمصالح الأمريكية في مقالاته وكتاباته، وذلك عن طريقِ نشر عدة مقالاتٍ أو إبداء آراءٍ تضامنية مُعلنة، خصوصاً إذا كانَ هذا الشخص يشغلُ منصباً ما يؤهله لأن يكون مسموعاً، وأنا واثقٌ من الطريقةِ التي ستسير بها الأمور بعد ذلك، فهي ذات الطريقة التي  جعلتنا نتحدث الآن عن عبد الرحمن الراشد.

 شخصٌ كهذا في الأساس لديه القابلية والتجهيز اللازم لكي يؤمن بكل ما ينتقد الإسلام الحالي، لماذا؟ لأنه بالنسبةِ له مُجردَ أيدلوجية مشوهة لم يجد فيها مساحةً لتنفسه.

إن أفكار الراشد تنبع غالباً من نقمته الذاتية على كل ما يمثلُ الإسلام، وتنبع ثانياً من إيمانه بالفلسفةِ التي جعلت أمريكا قائدة العالم المعاصر، لذلك ليس بمستغربٍ منه أن يتحرى توجهات السياسة الأمريكية ويكتب وفقاً لبوصلتها. إن هذا ليس عمالةً وخيانةً بقدرِ ما هو انتماء فكري يجوز عليه ما يجوز على التوجهات الأمريكية من نقدٍ وتحليلٍ ورؤية.

وفي ذات الاتجاه، يجبُ أن نتحدثَ عن الإسلام كدينٍ غريبٍ وسطَ أهله، وعلى وجهِ الخصوص، وسطَ من يزعمونَ أنهم الممثلونَ الجيدون لحقيقة الإسلام. وقد عُرفَ هذا في فترةٍ سابقة: بالإسلام السعودي، الذي انبثق من قلبِ الدعوة التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب استرجاعاً لعقيدة التوحيد الخالص على حد زعمهم. في مثلِ هذا الوسط المنمق والمحاط بإطاراتِ الشرعِ والإلتزام  الديني، نلاحظُ أن الصورةَ نفسها فارغة سلوكياً، وفكرياً، وحضارياً. فلا دينَ يُطبق سوى بمزاج أهل الفتوى التابعين للأسرةِ الحاكمة، ولا سلوكيات اجتماعية نستطيع أن نقول عنها إسلامية فضلاً أن ندعوها بالإنسانية. في وسطٍ كهذا يجبُ أن يُحسَّ أي باحثٍ عن الحقيقة بالكراهية الشديدة لكلِّ ما يمثلُ هذا الإسلام، من لحىً، وأشمغة، وعمائم، وتنظيرات فكرية وغير فكرية. يجبُ أن يبدأ بالثورةِ على كل هذا، وفي ظلِّ اللاوعي السائد، والتشنج الذي يُوفرُ قابليةً للتصادم، فإن ثورةً كهذه ستعتبرُ ثورةً على الإسلام، بينما هي في الحقيقةِ ثورةٌ وتمردٌ على صورةٍ فاسدةٍ من صورِ الإسلام.


Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *