مدخل
القرآن الكريم يضع منهجية راقية جداً لأخذ المعلومة، فيطلب دائماً البرهان، ويُشنع ويُجرم كل من يُفتي بغير علم ولا دليل، أو يقول كلاماً مطلقاً دون تفسير ودون مصدر واضح ومنطقي. وسنجد ذلك في آياتٍ عديدة في القرآن الكريم، لكن الآية الأم التي يمكن جعلها عنوانًا لمنهجية العقل في القرآن، فهي آية البرهان:
” قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين “
لا زعم إلا بدليل
قال تعالى في بداية سورة الكهف، في معرض تبريره لتزول القرآن الكريم، أنه جاء نذيراً لكل من قال أن لله ولد: ” ويُنذرَ الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم، ولا لآبائهم، كَبُرت كلمة تخرجُ من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا”.
فالذين قالوا بأن لله ولد، من أين أتوا بتلك المعلومة؟ وما الدليل عليها؟ بمعنى آخر: هل صعدوا للسماء، وعرفوا هذه المعلومة مثلاً من أحد الملائكة، فانتقلت إليهم عن طريق الإخبار؟
أم توصلوا إليها بالعقل مثلاً، فأين البرهان والدليل العقلي؟
والقرآن دائماً يستبق فيجيب على التبريرات المحتملة، فبالتأكيد سيقول الذين تخاطبهم الآية، نحن لم نأت بهذه المعلومة، بل ورثناها عن آبائنا، وجدناها في التاريخ، فالقرآن مباشرة ينفي العلم أيضاً عن آبائهم : ما لهم به من علم ولا لآبائهم”، إنه يُلغي الحجة التي سيقولونها قبل أن ينطقوا بها، لأن هذه هي الحجة الوحيدة التي يُمكن أن تُساق في مثل هذا الافتراء العظيم، وهذه سنة كل من يفتري على الله الكذب، ويتخذ من الدين عادة ووراثة، فلن تجده حريصاً أن يتدين بدين الله الحق، بل تجده أحرص على تطبيق دين الآباء والأجداد، وهذه وسيلة يمكن أن تقربنا من تمييز المصلحين والمفسدين أيضاً، فمن يتذرع بأن الآباء فعلوا، أو السابقين فعلوا، فهذا استدلال فاسد، واستنباط جاهل لا تقوم به الحجة، لأنه ليس معنى أن يفعل جدك شيئاً، أنه صحيح بالضرورة.
وهذه أحد رسالات القرآن الكريم، أو أحد مقاصده الكبرى، أن يضع قوانيناً للبشر، وأن يضع الحدود، فعلم الدنيا غير علم الغيب، وعلم الغيب لا يمكن لأحد أن يُخبر عنه سوى الله عز وجل، من خلال الوحي الصادق الموجه إلى البشرية جميعاً، وإلا فبدون الوحي، كيف كنا سنعرف بشأن كل الغيبيات التي نؤمن بها الآن؟
كيف كنا سنعرف عن الله؟
وهكذا، فأحد أهم المناهج في العلم القرآني، هو التدليل، فإن لم تأت بدليل على ما تقول، فأنت إما مُدع ظالم، وتفتري الكذب، أو أنك جاهل وقاصر عن الإلمام بما تتحدث فيه، فلتتركه.
التسليم يكون عن اقتناع
القرآن الكريم يُقدسُ العقل، ويُقدمه في كل شئ، حتى في الأمور التي يُطلبُ فيها من المؤمن التسليم لله، فإن هذا التسليم يأتي عن اقتناع عقلي، والقرآن في تعاطيه مع العقل، هو بمثابة مصدر الإلهام والتوجيه، فعندما يقول الله تعالى: ” وفي أنفسكم أفلا تبصرون” فهذا توجيه للعقل أن يتدبر ويتأمل في هذه الناحية، كأن تُشير لصاحبك وتقول له شارحاً فكرة وردت في كتاب: انظر هنا، وهنا، وهناك. ولله المثل الأعلى، فالقرآن لا يأمرنا بالتدبر فحسب، بل يعطينا الأدوات، ويدلنا على العناصر التي نتدبر فيها.
وبهذا المعنى، فالقرآن يأتي في مقام المُعلم، الذي يلفتُ نظر التلميذ إلى خفايا المعاني ودقائق الأمور، لكنه لا يُلقنه، أو يعطيه حلولاً جاهزة، بل يُعلمه منهجاً للتفكير، يعطيه نظرية، وعلى الإنسان أن يُطبقها وفقاً لفهمه.
القرآن يُعطينا منهجاً، يعلمنا الطريقة، يعلمنا كيفية الصيد، ونحن علينا اصطياد السمكة.
والقرآن يذهب أبعد من ذلك، فهو يعطيك المنهج، والمادة الخام أيضاً التي تطبقُ عليها هذا المنهج، فلنفترض أن شخصاً ما بدأ بتشغيل عقله، والتدبر في القرآن الكريم بغرض استخراج العبر التاريخية مثلاً، فإن أول إعجاز سيجده، هو القرآن الكريم نفسه. ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً “
وليس في الإسلام لاهوتية أو صفوة من الناس اصطفاها الله بأسرار القرآن، بل إن القرآن مُيسرٌ لكل من يعرف اللغة، فالقرآن لا يطلبُ من الناس مُستحيلاً، ولا يطلبُ من الناس شيئاً يصعب عليهم، أو يستعصي على عقولهم، فجميع معاني القرآن الكريم، أتت في حدود يُمكن للعقل البشري على تفاوت مستوياته، وتباين درجاته، أن يفهمها.
وبعد الفهم الأولي، أو الفهم المبدئي الذي يشترك فيه جميع الناس، يأتي التدبر، وهو ما يخص الله به عباداً دون عباد، والفهم العميق والتدبر هبة من الله عز وجل، لكن الجميع مأمورون به.
اترك تعليقاً