تخيل أنك تريد بناء عمارةٍ ذات عدة طوابق، ثم بدأتَ بالأعمدةِ والأساسات، ثم توقفتَ، وتركتَ البناء هيكلاً من الأعمدة الإسمنتية المُفرغة، أترى أحدٌ من الناسِ سينتفعُ بهذا الهيكل العاري؟ أو يأتيك يريدُ السُكنى في أحد الطوابق العلوية التي لم توجد أصلاً؟
هذا مُقتضى حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ” بُني الإسلامُ على خمس.. ” فمعلومٌ أن القواعدَ والأركان هي ما يُبنى عليه البناء، فإن تحققت لك القواعد، بقيَ لك أن تُتم البناء كاملاً كي يحصلَ الانتفاع منه، واستخدامه في أوجهه التي تريد، أما إن ظلَّ هيكلاً فارغاً، فلا نفعَ فيه إلا أن الغربان تسكنه، والبومُ تُعششُ فيه، فتتخذه أوكاراً.
وأما أغلبُ المسلمين اليوم، وأغلبُ حركاتِ الصحوة الإسلامية المزعومة، فكلها للأسف الشديد، هياكلٌ فارغةٌ من الإسلام، ودعاماتٌ منقوصةٌ لبُنيانه الشامخ، فالإسلامُ يُوشكُ في هذا الزمن المشؤوم أن يتحولَ إلى إسلامٍ كَنَسِي، مُقتصرٍ على المسجدِ والممارسات التعبدية الظاهرة، كالصلاةِ والصومِ وإطلاقِ اللحية، وأن تقول لأخيك: بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً، وأصبح علماءُ المسلمين مثل الباباوات ورهبان الكنائس، يُرددونَ أقوال من قبلهم، دون تمحيصٍ أو تهذيب أو بحثٍ لها على الوجهِ الصحيح الجامع، وأصبحَ الدليلُ غريباً بين ظهرانيهم، لا تقومُ له قائمةٌ أو يجدُ له نصيراً، وصدقَ الله العظيم حين يقول مخاطباً لمثلِ هؤلاء: ” قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ “. ويختصون أنفسهم ومن يُزكونه من فريقهم؛ أن يُفتوا الناس ويُفسروا لهم أمور دينهم، وأصبحت هذه الأمور هي المقاصد الكبرى للتشريع، وغدت الأشياء مُحرمةً في أصلها إلا ما وردَ دليلٌ صريحٌ بحله في نظرهم، والأفعالُ مُحرمةٌ في أصلها إلا ما وردت قرينةٌ تُبيحها، وتكونُ على هوى أصحابِ الفُتيا، وأصبحَ التشدُّدُ، والتنطعُ، والمغالاةُ في سدِّ الذرائعِ، وخشيةِ الفتنةِ هو الأصلُ والصواب، وعليه يجتمعُ العلماء، وبه يقولُ المجتهدون، فمن شذَّ عن ذلكَ أرهقوه همزاً ولمزاً وطعناً في دينهِ وأخلاقه وشخصه، وسلبوا منه ما كانوا خلعوه عليه بالأمسِ من ألقابِ المديحِ وعباراتِ الثناء، حتى لو أقامَ عليهم الدليل، وأوقفهم على الفهم السليم.
وعجبي إذا كانَ الهمزُ واللمز تم تفصيلُ الوعيدِ لمن يأتيه، بينما الاجتهادُ في الرأي تم تخصيص الأجر والثواب لمن يُخطئ فيه، فكيفَ يرتكبُ بعض الجهال كبيرةً مثل الغيبةِ والنميمةِ أو الهمز واللمز، طلباً لإقامة ما دونهما في الكراهةِ والمرتبة، تماماً مثلما يفعل بعضُ رجالِ الهيئةِ الجُهال، الذين يأتون مُنكراً منهياً عنه بنص القرآن، وهو التجسس، طلباً لإزاحةِ مُنكرٍ مُحتملٍ قد نَهى القرآن فيه أيضاً عن الظن فقال: إن بعضَ الظنِّ إثم، وهذا كله في سبيلِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في زعمهم، فيتحولون بالفهم السقيمِ إلى مرتكبي المنكر، وإلى مُتجسسين يجوزُ فقأ أعينهم.
وهذه المحرقة الإسلامية في الفهم السقيم لا يكاد أحدٌ ينجو منها، ولا يكادُ طالبُ علمٍ ينجو مما أشعلوه بالتقليد والاتباع الأعمى، إلا بمحاربتهم، فلسانُهم في ذلكَ لسانُ مُشركي قريش: ” إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون ” فتقولُ لكبيرهم وردَ في كتابِ الله، وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فيقولُ لك: قال ابن باز رحمه الله، وتقولُ له: لم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: لقد فعلَ ابن عثيمين، وقال ابن تيمية، فيجعلون من العلماء الكبارِ مُضغةً في أفواهِ من لا يعرفُ أقدارهم، بنسبةِ التحليل والتحريم إليهم، وتناسوا أن الانتساب في الحقِّ يكونُ إلى الإسلام، وأن الوقوف يكونُ عند حدِّ الدليلِ متى ما ظهر، وأن الحقَّ لا يُعرفُ بالرجال، بل يُعرفُ الرجالُ بالحق، وأن في الاجتهادِ سعةٌ وبدائل أعطاها الله لعبادهِ مصداقاً لحريةِ الإرادةِ التي ركَّبها فيهم سبحانه وتعالى، فما أقبحَ تعطيل ما أطلقه الله، وتضييق ما وسَّعه الله، بالفهمِ المتحجِّرِ والتضليلِ والتزييف والتعتيمِ على الأدلة، حتى تصبح خشيةُ الفتنةِ هي الفتنةُ في حدِّ ذاتها، وحتى يُصبحَ بابُ سدِّ الذرائعِ باباً من أبوابِ الشيطان، ولعله يكونُ باباً من أبوابِ جهنم، حينَ يرتضي أهلُ الأرضِ أن يجعلوا من هوى أنفسهم بديلاً عن رؤيةِ السماء، وهم في ذلكَ كله بين التقليد الأعمى، أو التعنتِ المشين، فأما التقليدُ الأعمى فلو قال ابن تيمية قولاً، وقالَ آخرون من أئمة العلماء قولاً آخر، تجدهم ينحازون لقول ابن تيمية ويُخفون ما أجمعَ عليه غيره، ويُعتمونَ على الأدلةِ بحيث لا يذكرونها للناس، ويفعلون ذلك في كلِّ تفاصيل الأمور، وأما التعنتُ؛ فليست قضيةُ التفكيرِ والتدبرِ وإعادةِ النظرِ في الأدلةِ مطروحةً لمجتهدٍ في رأيهم، بل يُشنعونَ على من يخرجُ بفهمٍ مُختلفٍ عما خرجَ به السلفُ الأوائل، أو عمَّا يرونه من آراء، وهذا غايةُ القُبحِ في تزييف الدين، وإفساده، وركوبِ الهوى شططاً وغلواً، مع الاعتقادِ بسلامةِ المنهج.
وأسوأ ما يقفُ عليه الإنسانُ في هذه الفترةِ المشؤومةِ من تاريخِ الإسلام، وما سيسجله التاريخُ كفضيحةٍ كُبرى لهذا العصر، تَصدِّيهم للإنكار الشديد في التوافه والتفاصيل، كقيادةِ المرأةِ للسيارة، وفتوى رضاع الكبر، وحكم الغناء، وإغلاق المتاجر وقت الصلاة، ثم صمتهم وخرسِ ألسنتهم عن ضياعِ مقاصدِ الإسلامِ وأصول التشريع، فيسكتون عن الظلم والمظالم، وانتهاكِ حقوق الناس وأكلِ أموالهم بالباطل، ويغضونَ أبصارهم وألسنتهم عن الحكامِ والمسؤولين ومن قامَ مقامهم، بل يُداهنوهم ويتجملون بنيل رضاهم، ويأمرون بطاعةِ أولي الأمر وهم يعلمون مفسدة إطاعتهم، فلا ينصحون لله، وتأخذهم في الله لومة اللائمين، فلا يقومون لله إن انتهكَ ولاةُ الأمرِ حدودَ الشرع، لكن إن كان الحديثُ على توافهِ الأمور، نجدهم يتصدرون ويُشددون ويُغلظون في الإنكار والوعيدِ على من ارتكب المباح الذي اختلف العلماء في حكمه، وعلى من اجتهدَ فاختار ما يرتاحُ إليه من أقوالِ أئمةِ العلم، فهذا يَسبُّهُ، وهذا يدعو بالْحَجرِ عليه وسجنه من فوق منبر الحرمِ المكي أمام المسلمين جميعاً، وذاك يعاتبه بقصيدةٍ ركيكة.
وأما عوامُ الناسِ وسفاؤهم من أهل الصحوةِ المشؤومة، فحدِّث ولا حرج، عن سوء أدبهم، وفُجرهم في الخصام كما المنافقين، إلى غير ذلك من سفاهةِ القولِ وسوء المنقلب، فلله المشتكى من أمةٍ هذا حالُ المنتسبينَ خطأً إلى صحوتها، وهذا حالُ أهلِ التمسكِ والتدين فيها، الذين إذا خاصموا فجروا، وإذا تكلموا أقبحوا وأقذعوا، وإذا قُدِّرَ لهم الاختيار، لاختاروا العسيرَ وقدموه على اليسير، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خُيِّرَ بينَ أمرينِ، اختارَ أيسرهما، ليُعلمنا أن روحَ الإسلامِ تكمنُ في التساهلِ والتيسير، لا في التعنتِ والتعسير.
اللهم اهدِ كلَّ مارقٍ ضال، وكُلَّ عييٍ ضيقِ الفهم، وكلَّ عالمٍ يتبعُ هواه على خلافِ الدليل.
اللهم عليكَ بكلِّ من يكتمُ عن هذه الأمةِ أمراً يُيُسرُ لها دينها، ويُعلي قدرها، ويُخفِّفُ من اجتماعِ الأممِ عليها، اللهم اهده أو عليك به، فافضحه بين الناس، فلا تقوم له قائمةٌ ولا يُسمعُ له رأي، ووفقنا اللهم لخيرِ ما فيه هذا الدين، وإقامته ونشره بين العالمين، اللهم اهدنا واهدِ بنا، وافتح علينا وافتح بنا، إنكَ أنتَ اللطيفُ الخبير.
اترك تعليقاً