عبارةٌ سادت في القرون الوسطى من العصر الإسلامي، وامتدت إلى سبعينيات القرن العشرين، ولا زالت آثارها التدميرية والتخريبية تظهر في المسلمين وفي ثقافة المجتمع الإسلامي إلى اليوم، هذه العبارة هي: عليكَ بخاصةِ نفسك، أو: الزم نفسك.
الثقافة ليست الأفكار فقط، بل هي عالم الأفكار والنتائج التي تفرزها هذه الأفكار، أي عالم الأفعال والسلوكيات، لذا فهي تشمل أسلوب حياة الناس عامةً في فترة ما، ومجتمع ما، وتشملُ أيضاً السلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في ذلك المجتمع. وليست الثقافةُ حكراً على فئةٍ معينةٍ من الناس، كمن يُطلق عليهم المثقفون، أو ما يقوله أولئك الذين يظهرون عبر الشاشات والبرامج التلفزيونية، إن الثقافة تمتد لتشمل طريقة تفاعل الإنسان البسيط والعادي مع الأحداث التي حوله، ومدى قدرته على التفاعل معها، أو التواصل من خلالها.
وإذا كنا – في الوقتِ الراهنِ – لا نريد إلا التركيز على جانبِ الأفكار فقط، فهو عمل ضروريٌ يوافقُ مقتضى الحال، حيث أن المجتمع يمر بخرَابٍ فكري شامل، وتداخلٍ فوضوي مشؤوم، أنتجَ لنا عالما من السلوكيات والأفعال التي قادت الأمة بأسرها إلى مؤخرة الركب، فصرنا عالةً على الأمم الأخرى، وتأخرنا وتقدمَ غيرنا لأن عالم الأفكار مسؤولٌ عن خلقِ عالم الأفعالِ وتغذيته، فإن فسدت الفكرة، فسدَ الفعل الناتج عنها، وهذا أمرٌ بديهي، ونتائجه التراكمية واضحةٌ للعينِ البصيرةِ الخبيرة.
كيف انتقلت إلينا الأفكار السلبية التي قادت المجتمع العربي والإسلامي إلى الحضيض؟
ليست الجراثيم والفيروسات وحدها تتكاثر وتطور نفسها من جيلٍ إلى جيل، فالأفكار أيضاً تمتلك هذه القدرة على التطور الذاتي، إما سلباً أو إيجاباً، وهي في وجهها السلبي بمثابةِ عدوى قاتلة تصيبُ المجتمعات كأنفلونزا الخنازير أو الطيور، إلا أنها تصيبُ العقولَ والأفهام، لا الأجسام والأبدان.
فكما يطور نفسه فيرس HIV-Aids المسؤول عن مرض الإيدز مثلاً، ويكتسب مناعة ضد اللقاحات المضادة كلما تطور، وبذلك يزداد حصانة ضد العلاج؛ تسلك الأفكار نفس السبيل، وتتطور بذات الطريقة، فقد تكون فكرة سلبية ما ولدت قبل ثلاثمائة سنة، أي من أربعة أجيال تقريباً، وطورت نفسها من جيلٍ إلى آخر في عقول الناس، حتى اكتسبت مناعة وحصانة ذاتية ضد النقد والإصلاح، فما عاد يجدي معها علاجٌ بدائي، بل لابدَّ من هدمِ المنظومةِ الفكريةِ المتراكمةِ كلِّها من أجل تفنيدِ بضعةِ أفكارٍ خاطئة اختطلت باللحمِ والعظم حتى ما عادَ الإنسانُ يُفرقها عن أي فكرةٍ صحيحةٍ أخرى، فمن أمثلة ذلك:
نلاحظُ أن العادة الاجتماعية في مناخاتِ الجمود الفكري وقلة الوعي، تطورُ نفسها إلى واقعٍ أسوأ مع كل جيل، حتى تتحول هذه المغالاة إلى شئ مقدس أكثر من الدين نفسه، أو تُنسب خطأً إلى التشريع الديني، وهي في أصلها مُجرد عادة سادت وتوارثتها الأجيال، لذا صَعُبَ التخلصُ منها، أو حتى ردها لأصلها في غياب التفكير المنطقي والنقد الذاتي.
ومثالٌ آخرٌ هو سفرُ الفكرة الخاطئة عبر الزمن، ونعني به نقل الظرف الراهن والحكم المتعلق به، من زمنٍ إلى آخر، دون مراعاةِ اختلافِ التوقيت، كالتشدُّدِ في جزئيةٍ معينةٍ من الدين، أو تطبيق ما كان يفعله الآباء والأجداد تجاه قضيةٍ ما، دون مساءلة ودون اقتناع ذاتي، ودونَ بحثٍ عن حلٍ جديدٍ مُعاصر، وهذا نابع من فرضياتٍ قاتلة سادت في المجتمعات الإسلامية أن كل ما قال به السابقون هو أفضلُ مما سنقوله نحن، وهذا صحيحٌ في جوانب كثيرةٍ كعلومِ الحديثِ والسنة، لكنه لا يصحُّ في جوانب أخرى، كتأويلِ القرآن، وإعجازه العلمي، واللغة والفقه، فكل هذه علوم يجب استحداث مناهج معاصرةٍ لها، لمعالجة القضايا العامة، وليشتغل بها عموم طلبةِ العلم، كالاقتصاد الإسلامي في ظل ثقافة البنوك ورؤوس الأموال العابرة للقارات، والتجارة الإلكترونية، والأزمة الحضارية التي يمر بها العالم الإسلامي والمجتمع العربي على وجه الخصوص، ويجب دراسة التحديات القادمة، وإيجاد طرائق للتعامل مع انتشار الإسلام المعاصر.
ما هي الأمور التي نثور عليها؟
ما هي الأمور التي سيتم تفنيدها ونفيها ودحضها بالحق والدليل الدامغ؟
أن ربة بيت كانت دائماً تطبخ السمك بأن تقطع رأس السمكة، وذيلها كلها، ثم تضعها على النار، فسألتها جارة لها: لماذا تقطعين رأس السمكة وذيلها قبل وضعها على النار؟ فأجابت: لا أدري، هكذا علمتني أمي، وهو مصداق قول الله تعالى عن المشركين: “إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم لمهتدون”.
اترك تعليقاً