ما العلاقة بين كون القرآن عربيًا وبين العقل والمنطق؟

لدي خاطرة قد يخالفني البعض فيها، لكني سأبين رؤيتي وتدبري.

على غير الشائع، القرآن لا يأمرنا بالاتباع، بل بالتفكير، ويحثنا على العقل لا على النقل، وعلى الإبداع لا الإيداع، وعلى التدبر والتفكر، وشواهد هذا كثيرة في الآيات.

لكن هناك تأمل آخر لفت نظري بينما كنت أقرأ قوله تعالى: “إنا أنزلنا قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون”. فثمة بالطبع الفكرة الأولى التي تقفز للذهن، عن كونه أُرسل لناسٍ يتحدثون العربية، فخاطبهم بها، لا مشكلة في هذا الفهم. لكن بما أن القرآن حمالُ أوجهٍ كما قال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وبما أن الرمزية والثراء سمة النص القرآني، فقد تأملت أبعد من هذا الفهم المباشر.

في رأيي أن القرآن يريد إخبارنا بأن اللغة العربية هي أعقلُ اللغات، وهذا الادعاء يستلزمُ منِّا إقامة البرهانِ والدليل، وإلا لأصبح الادِّعاءُ مُجرد ظنٍ وتوهم، أما إن أقمنا عليه الدليل، فسيصبحُ علماً مؤكداً.

نحنُ نؤمنُ أن القرآنَ الكريم كلامُ الله المنزل، وأن فيه استقامة البشر وصلاحهم، فإذا سألنا أنفسنا، لماذا يستلزمُ أن يكون القرآن أداة للصلاح والاستقامة؟

سيكون الجواب: لأنه علمٌ وقانون سماوي، أو إلهي، وقد قاله وأنزله من خلق البشر وهو أدرى بما يُصلحهم سبحانه وتعالى، فالصانعُ هو أقدر أحدٍ على إصلاحِ ما صنع، وهذا صحيح بالبديهة، لكن القرآن يقدم لنا رأياً آخر بجانب ذلك، فيقول تعالى: ” قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوج ” ، فصفة الاستقامة ونفي الاعوجاج ارتبطت بكونه عربياً، ولم يقل مثلاً، قرآناً إلاهياً، أو سماوياً، وهذا الربط بين كون القرآن عربي اللغة، وبين عدم الاعوجاج يُدلل على ما قلنا بالأعلى، ومع أنه غير ذي عوجٍ بسببِ أنه سماوي وإلهي، فهو أيضاً غير ذي عوجٍ لأنه عربي، وتخصيص اللغة العربية بهذه الصفة، لهو شرفٌ عظيم وشهادة إلهية بأنها أقدرُ اللغاتِ على إيصالِ معاني السماء، وبالتالي، أفتعجزُ عن إيصالِ معاني الأرض، والقيام بنهضتها وحضارتها؟

وقد لا يقتنعُ بعض الناس لعدمِ مباشرة الكلام في الآية السابقة، فلننظر لآيةٍ أخرى هي أوضح وأكثر مباشرة في الدلالةِ على أن اللغة العربية، أعقلُ اللغات، فبمجرد إتقانك فقط للغة العربية، فهذا شهادة لك بالعقل.

قال تعالى: ” إنا إنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون “.

إذن الآية تكشف لنا عن أحد أسرار نزول القرآن باللغة العربية، رغم أنه كتاب للعالمين، فالنطقُ العربي للقرآن، سببٌ مباشرٌ في تدريب وتمرين العقل على العمليات الفكرية، بعكس ما لو قرأت معانيه بلغةٍ أخرى.

فقط لمجرد أن تتعلم العربية بشكل جيد، وأن تقرأ القرآن بنطقه العربي كما أنزله الله عز وجل، فهذا أمرٌ يكفي لإعدادك فكرياً وعقلياً، فإن كنتَ استوعبتَ عن الله، بمنطقه، وحكمته، وبلاغته، وإعجازه، فما يُعجزك عن الاستيعابِ عن غيره؟

قد يعترضُ آخرون بأن الإسلام دينٌ لكل الناس، والقرآن كتاب لكل المسلمين على اختلاف ألسنتهم وتعدد لغاتهم، وأن نزوله بالعربية كان مُجرد ظرف زماني ومكاني، بسبب بعثة الرسول عليه السلام وسط أقوام من العرب.

نعم، هذا صحيح، لكن نزول القرآن باللغة العربية أمر مقصودٌ من قِبل الله عز وجل، قصداً توضحه الآية أن هذا الاختيار هدفه أن نعقل ونفكر. فالتركيبة اللغوية العربية التي نزل بها القرآن الكريم، هي تركيبة إعجازية من ناحية فنون البلاغة، وطرق الإخبار، وطرق إعطاء المعلومة من خلال السياق، والاستدراك، والتعجب، والتساؤل، إذا استوعب العقل هذه العناصر الموجودة في أي لغة، إذا استوعبها باللغة العربية، فإن هذا يُدربُ عقله على خطوات التفكير السليم والمنطقي، التفكير العاقل، وليس التفكير الذي قد ينحرف عن مقتضى العقل السليم.

سيقولُ قائلٌ، فما بال العرب، وهم مهد الرسالة والمتكلمين بلغة القرآن، ومع ذلك نراهم لا يقودون العالم في الحضارة والعقل والتطور؟

أقول، لا ذنب للغة في تخلف الناطقين بها حاليًا، بل إن مسألة التخلف لها أسباب أخرى سنفصل لها في موضع آخر، وعلى أية حال، فإن الأيام دول “وتلك الأيامُ نداولها بين الناس” فقديما نهضت حضارة عربية، وسينهض العرب مرة أخرى، أو هم ينهضون بالفعل، طالما أن أسباب التخلف قد حُيدت، وعاطفة الريادة جاشت، وأصبح العقل العربي حرًا من كل ما يكبله.


Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *